غزة: الاغتراب والخيانة

هذا النص ليس كلماتٍ فقط، بل هو انعكاس للحياة وواقع المغتربين، الذي بدأ منذ اللحظة الأولى لرحيلهم عن المدينة التي شهدت نضوجهم وكبرهم. هذه المشاعر كُتب جزء منها في عام 2021، وأُعيدت كتابتها وكأن التاريخ لا يتغير.

كل ليلة أحاول النوم. أقول “أحاول” لأن لا نوم ومدينتي لا تنام. ولا أقول “لا تنام” خوفًا أو عجزًا، بل خذلانًا بما فعله بها الأعراب والأغراب. أحاول أن أنام لعلّي أصحو من أسوأ كابوس قد يراود إنسانًا، أو حتى حيوانًا، أو أي كائن يمكنه الحلم. وأقول “كابوس” لأنني أتمنى، والله، ألا يكون كل ما مررنا به، داخل غزة أو خارجها، إلا كابوسًا يمكننا أن نستعيذ بالله منه، ونرى الوجود بعده كما تركناه مكللًا بالزهو والحياة.

أحاول ألا أتفحص هاتفي، فهو الذي ينقل آخر أنفاس المدفونين والمتروكين تحت الأنقاض، وهو الذي ينفي كل أمل بأنني كنت في كابوس. اليوم هذا أمر شبه مستحيل. نعم، أخاف أن أسمع خبرًا قد يكسر ضلوع القلوب ويرديني عاجزة عن المضي. لا أعرف بالتحديد كيف يمكن أن يكون رد فعلي، لكنني على يقين بأن هذا أبعد مما يمكن أن نتصوره. كل ما يخطر ببالي الآن: ماذا يفعل الوحيد، المغترب بلا رفيق، الذي لا يملك أحدًا قريبًا منه يمكن أن يحتضن لحظة العجز القاتلة؟

ما شهدناه وما نشهده يوميًا امتثال واضح لانهدام منظومة الأخلاق العالمية. فلا يمكن لأي أحد أن يقنعني بأن هذا أخلاقي، وأن قصف البيوت على ساكنيها أمر مقبول. حرمان الملايين من أدنى مستويات الحياة، أقصد حرمانهم من الحياة نفسها. كيف يُعد هذا أخلاقيًا؟ وكيف نعد ما يحدث في غزة أخلاقيًا وقد تخطى ما يمكن لأي كارثة إنسانية أن تفعله؟ إن هذا يُؤلم أكثر من فقدان الأحبة. حقيقة التمييز الجلية تقول إن حياة الطفل الفلسطيني لا تساوي حياة طفل آخر.

في الحروب السابقة كنا نصرخ وننادي: أين العالم؟ أين العرب؟
اليوم نحن لا ننادي، ولا نطلب من أحد أن يشجع الاحتلال على الامتثال للمواثيق. إننا نريد فقط أن نجد طريقة أو معجزة لوقف هذه الإبادة، لوقف قتل المئات بشكل يومي، بشكل لا يقوى أحد على وصفه أو تخيله. لا داعي لأن أذكر تفصيلًا عن عدد المجازر التي تُرتكب يوميًا في غزة، ولا أحتاج لأن أقول إن 75% مثلًا من مباني غزة قد سُوِّيت بالأرض. لا أحتاج لأن أقول إن أكثر من مليون طفل في غزة جائع. لا أحتاج لأن أقول إن النساء… بصراحة، أترك هنا فراغاتٍ عدة فهي تحتاج إلى إسهاب. والأسهل أن نقرأ كل إحصائيات وتقارير المؤسسات الأممية، خاصة التنبيهات الجندرية من هيئة الأمم المتحدة للمرأة.

أما نحن أهل غزة، داخلها وخارجها، فأي حياة لنا لنعيشها بعد كل دقيقة موت شهدناها ونشهدها في كل عين تعيش أو عاشت في غزة؟ وأقول “عاشت” لأن ما بين كل مئتي شخص في غزة قد قُتل واحد. اليوم أصبح ما بين كل مئة شخص قد قُتل واحد أو أكثر. قُتل واحد كان يمكن أن يكون عالمًا، طبيبًا، باحثًا… ومحبًا. محبًا للحياة كما هو حال كل فلسطيني. كل فلسطيني يريد الحياة.

نحن لا نلد أطفالنا لنورثهم للموت. نحن نلد أطفالنا لأننا نريدهم أن يزدهروا، أن يكبروا، أن يحلموا، ويربوا آمالًا بالإشراق. نربي أبناءنا ليكونوا امتدادًا لوجودنا وليس قربانًا للأرض. نحن نؤمن بالحرية والنضال من أجلها، ونؤمن بأن الثمن يكون غاليًا، ولكن ليس بأن نُباد علنًا. ليس بأن نُترك لنحترق أحيانًا، ولا لنَجوع، وليس بالتأكيد لتُسلب منا الحياة وكأنها قطعة من الثياب تُخلع ما لم تواكب الموضة الحديثة.

ربما حقيقة الحياة هي الأخرى كذبة حاولنا أن نصدقها. فهل نحن المغتربون نحاول الحياة؟
هذا هو السؤال الذي يؤرقنا: هل نجاتنا من أرض الموت تعني أننا نحيا؟ ما أستطيع أن أجزم به وأؤكده شخصيًا هو أننا نموت موتتين: الأولى لأننا كان يمكن أن نكون هناك، والثانية موتة الخيانة التي نشعر بها مع كل نفس نتنفسه، وكل أهلنا، كلهم، وأقول “كلهم” لأن كل أهل غزة أهلنا، ينتظرون دورهم في الحصاد. ينتظرون أن يُضافوا إلى أعداد الشهداء التي لا تتوقف عن الزيادة. كل ما أتمناه فقط ألا نكون أرقامًا. أن تحصل المعجزة.
قل كلمة وحاول أن توقف الإبادة!

Our beloved city #Gaza , before it was destroyed

Unknown's avatar

About Najlaa

An architect-engineer and writer who cares about details and try to reflect them in my writing I am writing about daily life, love, people and cities, in particular, my home town Gaza.
This entry was posted in allover, Gaza and tagged , , , , . Bookmark the permalink.

1 Response to غزة: الاغتراب والخيانة

  1. Pingback: #Gaza | Najlaa blogging

Leave a comment

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.