كل مرة أتحدث فيها مع أخي، أبي، أمي وأخي الأصغر، أسألهم بشيء من السذاجة: “بدكم تطلعوا من البيت؟”.
يرد كل واحد بنبرته الخاصة، التي تتغلغل فيّ، بنبرته التي تحمل بين طياتها عتابًا: “وين بدنا نروح؟”.
وأحيانًا يكون الرد يحمل حنانًا لا يمكن لأحد أن يعرفه إلا أنا: “وين بدنا نروح يا أختي؟”.
وأحيانًا أخرى، وخاصة أخي الصغير، الذي في الحقيقة لم يعد صغيرًا: “احكي أنتِ وين نروح؟”.
مهما حاولت أن أحاصرهم باقتراحاتي الغبية، يوصدون كل محاولة بما أعيه أنا تمامًا؛ غزة كلها حارة صغيرة، أينما ذهبت أنت محاصر بشيء واحد فقط يسمى الموت.
لكني لا أيأس من معاودة السؤال مرارًا وتكرارًا، لعلني أحاول أن أواسي نفسي وأسعف ما بقي من ماء وجهي. فها أنا هنا أكتب وأنعم بما لا ينعم به ملايين غيري، بما لا يتمتع به أخي وأقرب الناس إليّ: أمي وأبي.
للوهلة الأولى يُخيّل لأي أحد، بما فيهم أنا نفسي، يعرف بأني امتد إلى مدينة غزة، أن الحظ قد حالفني بالخروج منها سالمة. يعتقد بأني أُغدقت بنعمة يتمناها أكثر من مليوني شخص محاصر الآن من كل حدب وصوب بما يسمى الموت.
فها أنا هنا أعيش في دولة لا جيش فيها ولا أي مظهر عسكري يمكن أن يُتخيل، دولة تُصنف بأنها ربما الأكثر أمانًا في العالم. أعيش أنا وأطفالي في رفاهية ملوكية لم أكن لأتخيل أنني قد أنعم بها: ماء نقي صافٍ وعذب، كهرباء لا تنقطع أبدًا ومعها دفء لا حدود له، وفوقه طعام لا ينضب. هذه المدينة التي طالما اشتكيت من قسوة برودتها ورداءة الطعام فيها هي الآن حلم وخيال ربما لا يتحقق للملايين. الحقيقة أني الأميرة في بلاد الثلج هذه، أغرق بشعور الذنب، أغوص في عقدة الذنب، عقدة لا مناص من الفرار منها. تطاردني كل ثانية وكل لحظة، وتُشعرني بأني أخونهم، فلا يعود للأكل طعم، ولا لأي شيء آخر مذاق. كله يفنى مع كل ضربة تدك أرض المدينة وعليها من عليها من صغار ونساء ورجال وشيوخ، وفوقهم من وهب لي الحياة: أمي وأبي.
وأعود أسألهم بأول هدنة قصيرة الأجل: “ألا تفكرون بالنزوح جنوبًا؟”.
ألم أقل إني أحاول أن أحافظ على ماء وجهي؟ ولكنني بهذا أنكّل بعقلي، فأنا الأكثر علمًا بوهم المكان الآمن. لا أنتظر كثيرًا، ويأتي الرد يضرب معاقلي: “وين بدنا نروح؟”.
هذا السؤال، باللغة العامية، الأبلغ والأكثر جزالة من أي كلمة يمكن أن تعكس ما يتعشش فينا. هذه الإجابة الاستنكارية التي يطرحها كل إنسان غزّي داخل خزان محكم الإغلاق ولا جدران له. إنها الإجابة التي يقفز معها الذل، القهر، والوجع. وحين أقول وجعًا، فهو ما يكون في أعمق أعمق نقطة في القلب. الوجع الذي لا يخففه بكاء ولا يُذهبه صراخ. هذا الوجع الذي يشعرك بالعجز، ذلك العجز الذي يُميتك ولكنك ما زلت فيزيائيًا موجودًا في هذا العالم القبيح. العجز الذي يبقيك على ممارسة الحياة قسرًا، وكل من تحب يموتون تباعًا.
أصمت كثيرًا ولا أعاود السؤال، وكل ما أفعل هو ملاحقة عناوين الأخبار ونشراتها هنا وهناك. الذنب والعار يلاحقانني مع كل ضغطة أو قلبة لخبر ما. فأنا لا أستطيع إلا أن أكون أنانية وأنا أتصفح الأخبار، لا أريد أن يكون أحد من أحبتي خبرًا يتسابق لإذاعته، لا أريد لأي أحد أعرف يقينًا بأن له قصة وحياة أن يكون رقمًا، لا أريد لأي أحد. ولا أكذب إن قلت إن اللا أحد أكثر مما أستطيع أن أحصي أو أدون هنا. ولا أكذب حين أقول إنني لا أعرف أغلبهم، فكل الكل في غزة من أحبتي.
لا أستطيع إلا أن أكون أنانية وأنا أتصفح الأخبار من هنا وهناك، لا أريد أن يكون أي أحد من أحبتي خبرًا، ولا أكذب إن قلت إنهم أكثر مما أستطيع أن أذكر، ولا أكذب حين أقول إنني لا أعرف أغلبهم، فكل الكل في غزة أحبتي.
فكيف لي ألا أحزن وقد قضيت أكثر من ثلاثين عامًا من عمري فيها؟ هناك ولدت، كبرت، تعلمت، فرحت وحزنت، وهناك أنا أنتمي.
كلما تصفحت الخبر العاجل، قلبي يرتجف ويسقط أرضًا، كما لو أني في لعبة مخيفة ولا أستطيع أن أتدارك قلبي، فأشعر به يخرج من بين ضلوعي. أرتجف وأرتعب، بل أكون أسوأ من هذا. لا أعرف كيف لي أن أتحمل كل هذا الوجع، وكيف لهم أن يستمروا بالحياة والموت يمر من أمامهم دون أن يطرق بابًا أو يعطي مؤشرًا أن بوابات السماء فتحت على مصراعيها، فتحت للعدد غير المنتهي وليس له أفق.
لا أملك أن أفعل الكثير، ولا أملك أن أقول كثيرًا، وكأني بسؤالي لهم، إما إذا أرادوا البقاء أو النزوح، أشفع لعجزي الذي يشلني عن الحياة وهم يموتون. كيف لهذه الحياة أن تستمر وملايين منها لا يملكون مترًا واحدًا يمكن لهم أن يكونوا فيه آمنين؟
You can read the text in English via the following link. https://agnionline.bu.edu/blog/dispatches-from-palestine/#AttallahLeber

تم انتاج هذه الصورة باستخدام الذكاء الاصطناعي