Access to the English from here.
لقد مضى أكثر من عام وأنا أحاول جاهدة أن أصدق ما يحدث، أحاول أن أجد مبررًا واحدًا لهذا العالم الذي نعيش فيه، لا أجد أي إجابة، الكثير من الأسئلة التي تختزل إلى حقيقة واحدة: “لسنا كلنا واحد”. الحقيقة التي كنا نداريها ونحاول ألا نعترف بها، لم يكن ولن يكون الأبيض كالبني، والبني كالأسود.
أتذكر بشكل مكثف اليوم الذي سألتني فيه صديقتي العزيزة من كوسوفو، وهي مستغربة: “كيف لا تكونين أنتِ بيضاء؟”. لم تكن تعرف في ذلك الوقت أن التصنيف حسب البشرة تخطى الأبيض والأسود، وأُضيف إليه البني والبرتقالي، وأننا نعيش في هذا العالم وفقًا لهذا التصنيف، حتى لو لم يكن ضمن المقررات المدرسية أو معلنًا في الاتفاقيات المبرمة بين الدول.
اليوم، بعد مضي ما يزيد عن خمس سنوات، تعرف صديقتي ماذا يعني هذا تمامًا. تعرف ماذا يعني أن تكون شرقيًا، وماذا يعني بتفصيل أكثر أن تكون عربيًا، وتعرف أكثر وأكثر ماذا يعني أن تكون فلسطينيًا، لاجئًا، وما زلت تحاول أن تجد فرصة للنجاة. تعرف ماذا يعني أن تكون فلسطينيًا من الضفة أو من الداخل المحتل، تعرف تمامًا ماذا يعني أن تكون مقدسيًا أو تدرك أكثر ماذا يعني أن تكون فلسطينيًا من غزة. بل تيقنت أن فرصة الحياة تُقاس بمعايير آدمية مجهولة المصدر والتاريخ.
\أكتب وأنا أنظر من خلال النافذة، وأفكر: هل حقًا البلد التي أعيش فيها حاليًا من الأكثر جودة ورفاهية؟ كيف هذا وأنا للتو أغلقت الهاتف مع أحدهم، وقد كان يفتقر إلى أدنى مستويات التعاطف والإنسانية؟ أو ربما أنا التي أصبحت أتحسس من كل شيء وأشعر برغبة في البكاء في كل لحظة وكل حين.
هذا حالي منذ السابع من أكتوبر، أحاول أن ألملم أذيال خيبتي وأستجمع قواي، أحاول أن أدفن الخزي الذي أشعر به، لقد نجوت وخلفي ملايين من أهلي وأحبتي، ممن يتنفسون ما بقي من عمرهم بجوع، ألم، وقهر. أنظر إلى قوس قزح الذي شق البحيرة التي أمامي، ولا أرى إلا السواد يبتلع النهار وينبئ بموت جديد.
كل يوم هو إشعار جديد بمجزرة راح ضحيتها العشرات، وهذا إشعار آخر بمجزرة أخرى. وهذا كل من هو من أرض السلام، يستيقظ على طنين إشعار بموت عشرات ممن قد يكونون لعبوا معه في الحارة الغميضة، وينام على صوت صحفي يلهث تعبًا وهو يتلو أسماء عشرات آخرين ممن التحقوا بقافلة الشهداء.كيف لي أن أتصالح مع هذا العالم بعد هذا العام؟
كيف لي أن أتصالح مع هذا العالم بعد هذا العام؟
كيف لي أن أرى الناس بنفس العيون وأنا أراهم لا يأبهون؟
كيف لي أن أصافح من لا يبدي أدنى اهتمام بموت اللآلاف المؤلفة؟
كيف لي أن أكون هادئة، رصينة، وأنا أرى حولي الإنسان يغضب من سفاسف الأمور، غير آبه بأن على هذه الأرض حربا أودت ومازالت تودي بحياة آلاف الأطفال الذين قتلوا لأنهم فقط مجنسون باسم فلسطيني؟
لا أستطيع أن أصدق ما نعيشه في الوقت الراهن، وأكاد أكذّب كل من يقول إنه مر ما يزيد عن العام. الكثير من المترادفات والأسئلة اختلفت، العام الماضي كتبت مقالًا بعد إنهاء مكالمة مع أخي أقول فيه: “وين بدنا نروح؟”. اليوم، عندما أهاتف أخي الذي ما زال في مدينة غزة، لا أقول شيئًا، ولا يقول هو شيئًا، فقط أسمع صوت أنفاسه، وأعلم أنه ما زال على قيد الحياة.
اليوم، أهل غزة بدلًا من أن يسألوا: “وين بدنا نروح؟”، يسألون: “متى ستبتلع الأرض من بقي عليها؟”.
لا أتخيل أنني أكتب هذا، ولا أتخيل أنه ما زال هناك سيل من الكلمات ليُقال. لا أستطيع أن أتصور أنني في عام 2014 كتبت في مقال: “نريد الحق في الحياة لا الحق في اللا موت”. اليوم لا أملك إلا أن أكتب أن أهل غزة يستجدون الموت رحمة من الخذلان.
لم يعد للحياة أو الموت قيمة بعد أن سقط القناع، وتبدت من خلفه غيلان الجحيم التي فتكت بكل حي، إنسانًا كان أو أي شيء آخر.
يا الله، كم من هذا المداد من الكلمات لن يشفي غليل مكلوم؟ أنا أعتذر منكم أني تجرأت على الكتابة. فها أنا من موقعي هذا أرى أن الحياة لم تعد كما صُوّرت في الأدب وخيال المثقفين، لم يعد التغني بالعدالة والمساواة يُجدي نفعًا والناس تحترق أحياء دون أدنى تجاوب لإيقاف هذا الجحيم المسعور.
نعم، نحن الفلسطينيون، أو على الأقل أنا، فقدت الثقة في كل المنظومات الحقوقية، فقدت الثقة بالإنسانية وكل ما وُلِد معها. اليوم، كإنسانة ناجية من محرقة العالم الحديث، بتُّ أخشى حتى من القول إنني نجوت، بتُّ أشعر بالخجل من كوني استطعت الفرار إلى الأمان وخلفي الملايين، بتُّ أخشى مواجهة هذا العالم الذي ينتظر مني أن أبرر لماذا نجوت، ويريد مني أن أقف هناك كالمتفرج البائس الذي لا يملك أدنى حق.
نعم، أنا نجوت وخلفي كل أحبتي يحترقون قهرًا.
كإنسانة ناجية، بتُّ أشك في كل ما يدور من حولي. باتت الحياة عبارة عن معارك متتالية نخوضها، لا لننجو أو ننتصر، بل لكي يُنظر إلينا بأن فرصة النجاة التي وُهبت لنا لم تضع هباء.
الحقيقة أن هذه الفرصة اجتثثناها من الجذور ولم توهب لنا. نعلم يقينًا الآن أنه لم يقف أحد معنا، ولا يملك أحد فضلًا علينا. من بقي في غزة ينتظر الموت، ومن خرج من غزة يصارع للنجاة بروحه.